غترة ناصعة البياض تتدلى من أسفل العقال البدوى حتى العباءة، فتحدد الوجه بكل تفاصيله.. نظارة طبية لا تبرح موضعها، وشارب كث، ولحية صغيرة، ووجنتان غليظتان، ووجه أبيض لا يخلو من تجاعيد تقدُّم العمر الذى توقف فى العقد العاشر، حيث وُلد الملك عبدالله، الابن الثالث عشر لمؤسس المملكة العربية السعودية، والملك السادس، عام 1924م، ورحل عن عالمنا مساء أمس الأول عن عمر ناهز الـ91 عاماً.
وكما كانت هيئته لا تتخلى عن الملابس البدوية، كانت كذلك نشأته، فقد تعلم الملك فى البادية، وتلقى تعليماً دينياً تقليدياً داخل الكتاتيب وليس المدارس، فوالدة أكبر الحكام العرب سناً، وهى أيضاً الزوجة الثامنة لمؤسس المملكة، كانت تنحدر من أصول بدوية غرستها فى تربية نجلها، لتجعله قريباً من نمط الحياة القبلية، وهى الحياة التى كان يحفظها فى قلبه، كما كانت تظهر فى ملابسه.
بخطوات واثقة بدأ عبدالله فى الظهور والتصدى للعمل العام حين عيّنه الملك سعود رئيساً للحرس الوطنى عام 1963، وهو المنصب الأقرب لقلبه، فظل محتفظاً به حتى بعد جلوسه على عرش المملكة، وتخلى عنه فقط عام 2010، بعد خمس سنوات من حكمه للبلاد.
جاءت أول زيارة يقوم بها «عبدالله» للولايات المتحدة الأمريكية بعد تعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء عام 1975، عقب اغتيال الملك فيصل، وذلك للتدريب استعداداً لقدر أكبر من المسئولية فى المملكة. وبعد سبعة أعوام، ومع تولى الملك فهد الحكم، تقلد المنصب الذى تم إعداده من أجله حين عُيِّن ولياً لعهد البلاد عام 1982م.
ومع توليه العهد، وبحثاً عن دور ريادى عربى، أطلق الملك الراحل مبادرة السلام العربى، التى لم تلق قبولاً، وعاد ليطرحها من جديد بعد جلوسه على عرش المملكة. وخلال مؤتمر القمة العربية الاقتصادية المنعقدة فى الكويت بتاريخ 19 يناير 2009 تحدث بكل قوة عن نهاية الخلافات «العربية - العربية» ورفض أن تبقى مبادرة السلام العربية على الطاولة أكثر مما بقيت، لأن إسرائيل تماطل فيها ولا تريد تنفيذها، وبكل قوة أكد أن العرب قادرون على الصمود والحرب لاستعادة الأرض والكرامة المسلوبة، وهى المبادرة التى تبنتها الجامعة العربية فيما بعد. يُحسب للملك رفضه، وهو ولى للعهد، وجود قاعدة أمريكية فى المملكة، كما رفض أثناء توليه منصب الملك انطلاق طائرات أمريكية من مطارات سعودية لتشن هجماتها على العراق قبل إعلان الأمم المتحدة رعايتها للضربات، لتتمتع الحرب بشرعية دولية، وكذلك رفض وجود نورى المالكى بعد الحرب فى العراق، ورفض إعطاء الأولوية لمصالح الأمريكان على حساب المصالح العربية والإسلامية.
ربع قرن من الزمان كان يفصل ولىّ العهد عن العرش بعد رحيل الملك فهد، يقول الخبراء إنه كان الحاكم الفعلى للمملكة طيلة عشر سنوات حينما كان الملك يرقد على فراش المرض ولا يقوى على شئون الحكم منذ عام 1995.
ومع انطلاق الثورات العربية بدأ الملك فى إجراء عدد من الإصلاحات خوفاً من تحرك كرة الثلج نحو المملكة، فوعد المرأة السعودية بالحق فى التصويت فى انتخابات المجالس المحلية، وعين عدداً من النساء فى مجلس الشورى، مما اعتبره مراقبون خطوات إصلاحية، رغم نشأته وسط الجماعات الأصولية البدوية، فبخلاف تلك الخطوات كانت له مساع أخرى تجاه نساء المملكة، فسمح لعدد من النساء بالعمل، ولكنه رفض السماح لهن بقيادة السيارات، ورفض التساهل مع الشيعة، وواجه مظاهراتهم التى انطلقت فى المملكة واعتقل قادتهم.
يُحسب للملك عبدالله تأسيسه هيئة البيعة السعودية من أبناء الملك عبدالعزيز وأحفاده لتحديد آليات اختيار الملك. فى أكتوبر عام 2006، ومع مرضه، لم يترك الأمور بغير عقال، فعيّن فى مارس 2014 أخاه غير الشقيق الأمير مقرن ولياً لولى العهد، لتأمين انتقال سلس للحكم.
مؤخراً ظهر الملك عبدالله بجانب الرئيس الأمريكى باراك أوباما بأنبوبة التنفس، وأكد الديوان الملكى وقتها أنها وُضعت بعد أن أظهرت الفحوصات الطبية وجود التهاب رئوى استدعى وضعها لمساعدة الملك على الوجود فى لقاء الرئيس الأمريكى.
بعكازه وجلبابه الأبيض وأنبوبة تنفس تخرج من أنفه، لم يبعد عن العمل العربى فى أواخر أيامه، فسعى الملك عبدالله لرأب الصدع الخليجى، وعمل على إطلاق مبادرة مصالحة بين مصر وقطر، لينهى الخلافات المتأزمة فى العالم العربى قبل وفاته.