زمان.. كان وصف «السفاح» يطلق على الشخص الذى يقتل ويسرق وينهب، ويخوض نوعاً من التحدى ضد المجتمع والسلطة التى تمثله. «أدهم الشرقاوى» كان من هذا الطراز من البشر، الذى بدأ بتحدى المجتمع وقطع الطريق، وعندما طاردته السلطة قاومها، وبمرور الوقت بدأ يتحوّل فى نظر الكثيرين إلى بطل شعبى، وكان السر فى ذلك هو «تحدى السلطة»، وينطبق هذا الكلام أيضاً على «محمود أمين سليمان»، وهو واحد من أشهر السفاحين فى تاريخنا المعاصر، وظهر فى الستينات، وأثار خيال المصريين ممن عاصروا هذه الحقبة، بقدرته على مراوغة السلطة والهرب منها، وقد خلّد المبدع نجيب محفوظ حكايته فى رواية «اللص والكلاب». فبطلها سعيد مهران كان لصاً خاض صراعاً مريراً مع مجموعة من الكلاب، كان من بينهم رفاقه فى اللصوصية، وزوجته، والمثقف المخادع الذى علمه كيف يُفلسف السرقة ويبرّرها، بالإضافة إلى مؤسسات الدولة التى تدبّر العدل بميزانها الخاص الذى يميل مع السيف حيث يميل.
مفهوم «التحدى الفردى» للمجتمع والسلطة التى تمثله اختفى واضمحل ليحل محله مفهوم «التحدى الجماعى»، فنحن اليوم نعيش حالة مختلفة تتحرّك فيها مجموعات لتلعب لعبة «تحدى السلطة». ومن يراجع تفاصيل ما نشرته بعض الصحف عن موقعة «البلابيش»، فسوف يتأكد من ذلك. فعلى حد ما روى عدد من المسئولين الأمنيين، قامت مجموعات مسلحة من أهالى قرية البلابيش بسوهاج بمحاصرة كمين «الخزان» الحدودى مع محافظة قنا، ونشبت معركة بالرصاص بينهم وبين قوات الأمن استغرقت ليلة كاملة، والسبب فى ذلك هو قيام الشرطة بقتل مسجلين خطر من أهالى القرية، بسبب استيلائهما على مساحة من أرض شباب الخريجين بقرية «صديق المنشاوى». فى هذا المشهد نحن بصدد مجموعة تتحدى السلطة، مدفوعة فى ذلك برغبة فى تجاوز القانون، أو عدم احترامه. ومن المحتمل جداً أن يجد هذا التحدى نوعاً من التشجيع والاحتفاء، بل والحديث عن جانب «البطولة» فيه من جانب باقى أهالى القرية، تماماً مثلما وجد «سفاح الستينات» و«أدهم الشرقاوى» و«خُط الصعيد» من يحتفى ببطولتهم فى تحدى السلطة!
مفهوم «التحدى الجماعى» أشد خطورة بالطبع من مفهوم «التحدى الفردى» للسلطة، إذ ليس شرطاً أن يأخذ شكل «التجمع العصابى» الذى يتحدّى السلطة بهدف السرقة أو قطع الطريق أو القتل أو الثأر، فمن الوارد جداً أن يتبلور فى أشكال أخرى عديدة. على سبيل المثال الخلايا العنقودية الإخوانية التى تنتشر الآن فى قرى ومحافظات مصر وتقوم بعمليات تخريبية بهدف «تحدى السلطة»، ليس من منطلق السلب أو النهب أو غيره، ولكن من منظور المبارزة السياسية الهادفة إلى «إيلام المسئولين» من خلال تعطيل مصالح الناس، وإثبات عجز النظام عن السيطرة على الأوضاع، وتقابل هذه الخلايا الإخوانية خلايا أخرى تتولى الدفاع عن السلطة، معتمدة على الأساليب نفسها التى تسلكها ميليشيات الإخوان كحرق السيارات والمبانى والمؤسسات الإخوانية وتخريبها. مجموعات عديدة -مختلفة الأهواء والمشارب- بدأت تتبنى مفهوم «التحدى الجماعى» للسلطة. فى كل الأحوال ليس فى مقدور أى مجموعة أن تحسم صراعاً مع السلطة، إذا افتقرت إلى سند شعبى يدعمها، لأن الشعب هو القادر على الحسم فى كل المواقف، وفيما عدا ذلك فإن مخالب السلطة هى الأقوى فى الأغلب!